سبيل غصوب: الخيال سلاحٌ هائلٌ للذين يريدون فهم العالم

مغتربون | | Thursday, December 1, 2022 2:47:00 PM

بهاء إيعالي - ضفّة ثالثة

 

 

لطالما كان للأدب اللبنانيّ المكتوب بالفرنسيّة حضور في المحافل الثقافيّة الفرنسيّة، وهو حضورٌ ليس بجديد، إذ عرف أسماءً مميّزةً عديدةً خلال أجيالٍ متتالية، وما جورج شحادة، صلاح ستيتيّة، فينوس خوري غاتا، شريف مجدلاني وألكسندر نجّار وغيرهم سوى بعض منهم. ولعلّ أبرز هذه الأسماء هو أمين معلوف الذي استطاعت روايته "صخرة طانيوس" الحصول على جائزة غونكور للآداب عام 1993.

ثمّة جيلٌ جديدٌ من الكتاب اللبنانييّن الفرانكوفونيين يبرز اليوم، من بين هؤلاء يأتي سبيل غصوب (1988)، الروائيّ والمخرج السينمائيّ الشاب الذي بدأ من السينما، وعملَ في الصحافة الثقافيّة لفترةٍ جيّدة، وصدرت له ثلاث رواياتٍ آخرها رواية "بيروت على ضفاف السين" التي نالت مؤخّرًا جائزة غونكور لاختيارات الطلّاب (فرعٌ من فروع جوائز غونكور).

بهذه المناسبة كان لنا هذا الحوار معه:

 

(*) نبدأ مع بطاقة تعريفك. من أين بدأت رحلتك مع الكتابة؟ وكيف يمكنك التحدّث عن تجربتك حتّى الآن؟

بدأت رحلتي الأدبية حقًا عندما قررت مغادرة لبنان بعد سبع إلى ثماني سنوات من حياتي هناك، وقد اختبرت هذا الرحيل كفشل وخيبة أمل هائلة لا يمكن أن تعزيها إلا الكتابة.

 

(*)"بيروت على ضفاف السين" عنوانٌ حمّال للعديد من الأوجه. ما هي الأسباب التي دفعتك لاختياره؟ وما هي الدلالة المقصودة من خلاله؟

هذا العنوان هو المدينة التي أنشأتُها ليشعر والداي أخيرًا وكأنهما في منزلهما في مكان ما، وهذا المكانُ موجودٌ الآن في كتاب.

 

(*) بدءًا من العنوان وحتّى الصفحة الأخيرة، نجد أنّك تشتغل كثيرًا على وضع تعريفاتٍ خاصّةٍ للمنفى بالنسبة للفرد اللبناني، وهو ما يأتي متناقضًا مع الشخصيّة اللبنانيّة التي تعشق الاغتراب إلى حدّ ما، وهذا ما يجعل هذا المفهوم مستحدثًا بالنسبة لها. هل باستطاعتك أن توضح مفهوم المنفى اليوم بالنسبة للشخصيّة اللبنانيّة إثر كلّ ما حصل من تطوّراتٍ سياسيّة واجتماعيّة في البلاد؟

الهجرة هي تاريخ لبنان، وتمثال المهاجر أمام مرفأ بيروت أقوى مثال على ذلك. بالنسبة للمنفى، كانت إيتيل عدنان أفضل من تحدث عنها، ومن هذا المنطلق أقتبسُ منها هذا القول: "لم يعد المنفى امتيازًا حزينًا لعدد قليل من الأفراد النادرين: لقد أصبح مرادفًا لحالة الإنسان، ولكن مع اختلاف طفيف: البعض منا يلتهمه هذا المرض بطريقة واضحة ونهائية، بينما كل الآخرين لا يدركون بعد ما يعانون منه بالفعل".


"الحرب الأهليّة اللبنانيّة هي مصدرُ إلهامٍ لنا كلبنانيين، ككتّابٍ على وجه الخصوص، وهذا يحدثُ رغمًا عنا، كما أنّنا لا زلنا نداوي الجراح التي لم تلتئم بعد، وأخشى القول إنّها لن تلتئم بسرعة"


(*) باريس وبيروت، مدينتان تحاول في هذه الرواية توأمتهما، إذ تربط بينهما من خلال حنين أبناء الجالية اللبنانيّة في باريس لبلدهم، كما أنّك لا تتردّد في جعل باريس جزءًا من الحالة اللبنانيّة خلال الخمسين سنة الأخيرة. إلى أيّ مدى يمكن للمدن أن تصبح متشابهةً في نظر الإنسان؟ وما الذي يميّز باريس عن باقي المدن التي عرفت وصول اللبنانيّ إليها؟

ربّما لن أستطيع تحديد الاختلافات بين مدنٍ وأخرى أو حتّى رسم التشابهات فيما بينها. أعرف باريس اللبنانيّة هذه على وجه الخصوص، وقد تأثرّت بها، ولكنّ هذه المدينة، أي باريس بشكلٍ عام، لها خصوصّية بأنّها أشبه بالإسفنج، أي تمتصّ أيّ خصوصيّةٍ لمدينةٍ أخرى. في باريس، ووفقًا لإشاراتنا الوامضة، يمكن للمرء أن يشعرَ وكأنّه في بيروت، في باماكو، في أثينا، في طهران، في روما، في بكين وغيرها.

 

(*) تأتي حكايات الرواية عبر مرحلتين زمنيّتين: الأولى هي فترة الحرب الأهليّة بين عامي 1975 و1991، والثانية بدءًا من ثورة 17 أكتوبر 2019 وصولًا إلى انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020. أتحاولُ، بشكلٍ أو بآخر، القول إنّ ما يحصلُ اليوم في لبنان هو إحدى النتائج المتأخّرة للحرب الأهليّة؟ وكم لا زالت الحرب الأهليّة اللبنانيّة بيئةً خصبةً للإبداع الأدبيّ برأيك؟

كلامك دقيقٌ وصائبٌ بشدّة، فالحرب الأهليّة اللبنانيّة هي مصدرُ إلهامٍ لنا كلبنانيين، ككتّابٍ على وجه الخصوص، وهذا يحدثُ رغمًا عنا، كما أنّنا لا زلنا نداوي الجراح التي لم تلتئم بعد، وأخشى القول إنّها لن تلتئم بسرعة. ليس باستطاعتنا فعل ما هو خلاف ذلك للأسف. أنا أنتمي للجيل الذي لم يختبر الحرب ولم يعايشها (ولدتُ عام 1988)، لكنّ هذا الجيل، بشكلٍ أو بآخر، لا زال يعاني من تداعيات هذه الحرب الشعواء. ربّما أستطيع القول إنّ جيلي هو جيل خيبة ما بعد الحرب.

 

 

(*) بما أنّنا تحدّثنا عن انفجار مرفأ بيروت، ما هو الأثر الذي أحدثته هذه الكارثة في نفوس اللبنانيين المقيمين في الخارج؟

تسألني عن انفجار بيروت؟ هل يستطيع أحد التشكيك للحظةٍ بالجرح العميق الذي أحدثه في النفوس؟ ليست نيترات الأمونيوم وحدها التي انفجرت في الرابع من آب، في ذلك اليوم المشؤوم، بل أيضًا قلوب اللبنانييّن جميعهم، الموجودين في لبنان وفي الشتات أيضًا. لقد قالها وجدي معوّض بشكلٍ أو بآخر، وأنا أتّفق معه في هذه الفكرة بشكلٍ تام.

 

(*) تتطرّق الرواية أيضًا إلى مسألة الهويّة، وذلك من خلال حديث والديك واستعادة الأخيرين لذكريات لبنان. ليست مسألة الهويّة بجديدةٍ على الأعمال الأدبيّة، ولكن كيف تجدها متميّزةٌ في روايتك عن بقية الأعمال الأدبيّة التي تناولتها؟

ربّما لديّ نظرة خاصّة تجاه الهويّة، فهي ليست هويّةً بالنسبة لي، أو دعني أقول إنّها، ولو أردنا اعتبارها موضوعًا، ذريعةٌ لرواية الحكايات، لإضحاك الناس أو لدفعهم إلى التفكير، أو أيّ شيءٍ آخر. لو أردت منّي تحديد محور موضوعي، فهو يدور حول عواطف خاصّة، عواطف شابٍّ يسعى لرؤية عالم أصوله من خلال كلام والديه.


"لو أردت منّي تحديد محور موضوعي، فهو يدور حول عواطف خاصّة، عواطف شابٍّ يسعى لرؤية عالم أصوله من خلال كلام والديه"


(*) المختلف في هذه الرواية هو أنّها تقوم على أسلوب الدوائر الحكائيّة الصغيرة التي تترابط ببعضها من خلال شخصيّات العمل، بالتالي لا نجد فيها ما يعرف بتوالي الأحداث التقليدي، كما أنّها أقربُ لسيرة الفضاء المحيط بحياة الراوي وتأتي مرويّةً على لسانه. أخبرنا عن الدوافع التي قادتك لتبنّي هكذا أسلوب في روايةٍ ربّما من الممكن أن تتّخذ الشكل التقليديّ للسرد.

ما دفعني لاختيار هذا الأسلوب هو أنّه يشبه حياتي وحياتنا، فأنا أعيش باستمرارٍ بين واقعين، الواقع الفرنسيّ ونظيره اللبناني، وأيضًا بين مرحلتين زمنيّتين هما الأمس واليوم. لن يكون باستطاعتنا أن نفهم المحن وسوء الأوضاع التي تحدثُ اليوم في لبنان بدون أن نعود بالزمن إلى سنوات الحرب الأهليّة. الحياةُ عبارةٌ عن حركةٍ مكّوكيّةٍ متواصلةٍ بين الماضي والحاضر، بين الـ "هنا" والمكان الآخر، وما كتابي سوى نسخة من كلّ هذا.

 

(*) كما نجدُ أيضًا نوعًا من توازي الأدوار بين العناصر الأساسيّة المكوّنة للرواية، بحيث أنّ كلًّا من الزمان والمكان والشخصيّات تؤدّي أدوارًا متساويةً في النصّ الروائي، فلا أجد أحدها طاغيًا على الآخر. ما هي المعايير المطلوبة لإقامة هذا التوازي الدقيق في الأدوار بين هذه العناصر من وجهة نظرك؟

هذا التوازي، وأحبّذ أن أسمّيه "التناغم"، هو مسألة إيقاعٍ وموسيقى، فأنا أثقُ في مشاعري، وكذلك أثق بشعوري من أخل خلق مثل هذه الروابط فيما بين عناصر النص. قد تكون مفاجئةً في بعض الأحيان، غير أنّها لا تأتي بالصدفة على الإطلاق. إنّه يشبهُ الأغنية إلى حدٍّ ما، وأحيانًا يكون الانتقال من المقطوعة إلى الكورال مفاجئًا عند الاستماع لأول مرّة. ومن ثمّ حينما نستمع إليها للمرّة الثانية، فالثالثة... يبدأ لدينا الشعور بالإعجاب تجاهها ومن ثمّ فهمها في النهاية.


"الحياةُ عبارةٌ عن حركةٍ مكّوكيّةٍ متواصلةٍ بين الماضي والحاضر، بين الـ "هنا" والمكان الآخر، وما كتابي سوى نسخة من كلّ هذا"


(*) في روايتك، حتى ولو أنّك ركزت على التجربة الواقعيّة بين بيروت وباريس، فإن الخيال موجود في كل مكان. هل هذا ما أعطى جانبًا خياليًا لروايتك؟

الخيال ضروريٌّ لفهم الواقع، إنه سلاحٌ هائلٌ لأولئك الذين يريدون فهم العالم.

 

(*) لنخرج قليلًا من أجواء الرواية ولنتحدّث عنك. صدرت لك ثلاث روايات مكتوبة بالفرنسيّة، بل إنّ كلّ أعمالك في النقد والتصوير وغيرها مستندة على هذه اللغة. ما السرّ الذي دفعك لاختيار الفرنسية وأنت المولود لعائلةٍ لبنانيّة، بغض النظر عن كونك مولودًا في فرنسا؟

الفرنسية هي لغتي في الكتابة، فأنا لا أطرح على نفسي حقًا مسألة الكتابة بلغة أخرى. أعتقد أن اللغة لا تقتصر على بلد واحد، فاللغة لها حرية السفر كما تشاء.

 

(*) انطلاقًا من تجربتك ورؤيتك الخاصّة للحراك الأدبيّ في فرنسا، حدّثنا قليلًا عن واقع الأدب اللبنانيّ الفرانكفوني اليوم، وما هو المستقبل الذي ينتظره.

يبدو لي أن الأدب اللبناني الفرانكوفوني يتطوّر بشكلٍ جيد، ومن خلاله تتعايش أجيال مختلفة، والجيل القادم (الذي أتخيل أن أكون جزءًا منه) موجودٌ بالفعل. أبناء جيلي أيضًا أحرار جدًا في كتاباتهم، وأنا أفكر بشكل خاص في زميلتي جوي مجدلاني.

 

(*) بحال جرت ترجمةُ أعمالك للّغة العربيّة، هل ثمّة رسالة تودّ إرسالها للقارئ العربيّ من خلال أعمالك؟

لا أريد أن أنقل رسالة في كتبي أبدًا. لكن إذا تمت ترجمة كتبي إلى العربية، وجاري ترجمة أحدها، آمل أن يجد القراء نفس اللغة والإيقاع ونفس المشاعر التي حاولت نقلها باللغة الفرنسية.

الأكثر قراءة