علي فضّة - الجمهورية:
لم يأتِ هوكشتاين هذه المرّة حاملًا تهديداً ووعيداً عن لسان الإسرائيلي، كالتهديدات السابقة التي توافق عليها الموفدون، على غرار أنّ إسرائيل «ستوسع وتضرب وتبطش»، أو أنّ على المقاومة الإنسحاب الى شمال الليطاني أو سحب «قوة الرضوان» كيلومترات بعيدًا من الحدود. إجمالًا كل هذه السرديات على شكل رسائل عبرية ناطقة بالإنكليزية أو بالفرنسيّة وتارةً بالعربيّة أو بالألمانيّة، والتي كانت تأتي في سياق «الحرص»، لم تأتِ أُكلها، والأجوبة اللازمة كان غالبها من «عين التينة» المنخرطة حركتها «أمل» في المواجهة مع العدو الإسرائيلي عسكريًا على حدود لبنان الجنوبية، والتي يملك رئيسها تفويض قيادة المحادثات أو التفاوض. وكما هو معلوم أنّ هذا ينطلق من ثابتتين: الأولى حرص الرئيس نبيه بري على المقاومة كقوة ردع مضافة إلى لبنان، إضافة إلى حماية لبنان من إسرائيل في آنٍ معًا، والمتمسك بلاآت حركة «أمل» و»حزب الله» المعروفة سلفًا والتي لم تتغيّّر منذ 8 تشرين الاول.
اللقاء مع الموفد الأميركي هوكشتاين كان طابعه مختلفاً هذه المرّة، حيث قال ما حرفيته: «أنا اليوم هنا لا أمثل الولايات المتحدّة فقط بل أنقل وجهة نظر المجتمع الدولي»، طبعًا المقصود حلفاء أميركا.
اللقاء مع بري هو الأطول منذ البدء بترسيم الحدود البحريّة الى الحرب الدائرة حاليًا وزياراته المتكرّرة (دام نحو ساعة ونصف ساعة) حاول خلاله «هوكشتاين» التملّص من الإلتزامات الدوليّة عبر تمييع قراراته المتعلقة بلبنان والعدو الإسرائيلي وفصل المسارات بين فلسطين ولبنان، موحيًا أنّه في حال تمّت ”الهدنة“ في غزّة، وهذا غير واضح المعالم بعد، لكن، هل السعي للهدنة بمعزل عن شيطان التفاصيل، جديّ؟ نعم، هل المعطيات والمعلومات توحي بذلك؟ لا، إذن نحن على شفير هاوية، إما الإنزلاق الكلي أو الجنوح نحو إرساء الهدنة. هوكشتاين أمام هذه الضبابيّة في التصورات والتعنّت (الإسـرائيلي) الواضح والثبات الفلسطيني الميداني والتفاوضي، أوحى أنّ المقاومّة في لبنان يجب أن توقف إطلاق نار من تلقاء نفسها، بمجرد أن نجحت الهدنة! وتأمين عودة المستوطنيّن إلى الشمال مع حفظ أمنهم، ما سينعكس برأيه إيجاباً على لبنان من تأمين غاز وكهرباء وغيرها من الحاجات الأساسيّة.
إذاً هوكشتاين يريد كل شيء من دون أن يعطي بالمقابل أي شيء، أو يريد بالحدّ الأدنى ترسيخ معادلة إلتزام مبدئي وإنتزاعها من الرئيس بري، حتى وإن فشلت المفاوضات على الهدنة في غزة، تأسيسًا لما بعد، وأن يحافظ على هذه الورقة بجيبه.
الرئيس نبيه بري بدوره كان هادئًا ثابتًا كعادته، وأوضح، نعم، حجر الزاوية في المعادلة هي غزّة، وبالتأكيد البدء بمسار التفاوض، هذا من شأنه أن ينعكس إيجابًا على الجبهة مع شمال فلسطين المحتلة، في اعتبار لبنان جبهة إسناد ضدّ الحرب على غزّة، في حال أوقف العدو إطلاق النار وتمّت صفقة الهدنة، وهذا الموقف ليس بجديد، لأنّ الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله قالها مرارًا رابطًا المسار الغزاوي مع اللبناني، لكن المطروح غير معقول في غياب الضمانات والتنفيذ الكامل للقرار الدولي 1701 بعيدًا عن تمييعه وتركه مهبًا في سياق التأويلات وعدم الإلتزام، الذي هو القاضي بوقف الإنتهاكات الإسـرائيلية، وتنفيذه من الجانبين بكل بنوده بلا نقصان. بري شدّد على أنّ لبنان لا يريد توسعة الحرب أو إمتدادها بعد هدنة غزّة المرتقبة وفق رغبة لبنانيّة، لكن المسؤوليّة الوطنيّة تحتّم علينا تحصيل ضمانات واضحة وصريحة، تحمي لبنان من العدو الإسـرائيلي.
في ملف الرئاسة، كان لافتًا الإهتمام به على نحو مغاير في هذه الزيارة، حيث شدّد هوكشتاين على ضرورة الإسراع في إتمام هذا الإستحقاق الملّح، من دون دخوله في الأسماء أو تفاصيل أخرى.
كان سبق للرئيس بري أن طرح مبادرة جديّة ومنصفة للجميع. حيث دعا في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر الى «الإتفاق على أسماء عدة والدخول الى البرلمان للإنتخاب ومن يفوز نبارك له». لكن هذا الطرح لم يلقَ القبول لدى الفريق المعارض، حتى أنّ الحوار الذي دعا بري اليه أيضًا، كان بلا شروط، بينما اشترط الآخرون، برنامجاً واضحاً للحوار وغيره من الأعذار، الحوار ليس أداة شرطية لتخلّي أحد عن دعمه لأي مرشح يرى فيه المواصفات المطلوبة لمنصب الرئاسة لأي كان من الأفرقاء، هذا حق مشروع للجميع ويأتي ضمن إطار اللعبة الديموقراطيّة البعيدة من التعليب أو من إلغاء أي مكوّن وخياراته الرئاسيّة أو السياسيّة، لكن أيضًا أتى من دون قبول لدى الأطراف الأخرى أو تقدّم على هذا المستوى.
لم تكن زيارة الموفد الرئاسي الاميركي آموس هوكشتاين هذه المرّة، كمثيلاتها من زياراته أو من زيارات الديبلوماسيين والأمنيين الغربيين، في لقاء وُصف بـ»الجاد جدًا».